عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
: ( قال الله عزوجل : يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان
منك ولا أبالي ، يا ابن آدم ، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ، ثم استغفرتني
غفرت لك ، يا ابن آدم ، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا
تشرك بي شيئا ، لأتيتك بقرابها مغفرة ) رواه الترمذي ، وقال : " حديث حسن
صحيح " .
الشرح
بين يدينا حديث يأسر القلب ، ويأخذ
بمجامع النفس ، يستمطر الدمع ، ويهيّج في الوجدان مشاعر التوبة والرجاء ،
لتتلاشى معه أسباب اليأس والقنوط ، إنه هتاف سماويٌّ لو تردد في جنباتنا
لأفاض عليها شوقا وحنينا إلى خير من مُدّت إليه الأيادي ، ولهجت بذكره
الألسنة ، فيالها من موعظة ، ويالها من تذكرة .
لقد جاء الحديث ،
ليزفّ إلى الناس البشرى ، فرحمة الله واسعة ، وفضله عظيم ، لا يقف عند حدّ
، ولا يحصيه عدّ ، فغدا هذا الحديث إبهاجا للتائبين ، وأملاً للمذنبين ،
وفرصة لمن أسرف على نفسه بالمعصية ، أو فرّط فيما مضى من حياته ، ولعلك –
أيها القاريء الكريم – تدرك بذلك سر المكانة التي حازها هذا الحديث دون
غيره ، حتى إن كثيرا من العلماء ليرون أنه أرجى حديث في السنة كلها .
وتتجلّى
معالم الحديث في بيانه لأسباب حصول المغفرة ، ويأتي الدعاء في مقدّمة تلك
الأسباب ، والدعاء قربة عظيمة ، وصلة مباشرة بين العبد وربّه ، وهي سلاح
المؤمن الذي يتسلّح به في الشدائد والكربات .
وقد حثنا الله
تعالى على الدعاء في عدّة مواضع من كتابه ، فقال تعالى : { وقال ربكم
ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } (
غافر : 60 ) ، وقال سبحانه : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة
الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } ( البقرة : 186 )
، بل جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : ( من لم يسأل الله يغضب عليه
) رواه الترمذي ، وصدق الشاعر إذ قال
الله يغضب إن تركت سؤاله وبنيّ آدم حين يُسأل يغضب
بيد
أن لهذه العبادة شروطاً ينبغي استكمالها ، ليكون الدعاء جديراً بالإجابة ،
وأدعى للقبول ، فمن ذلك : حسن الظن بالله ، والرجاء والأمل بالمغفرة ، كما
بيّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلّم في قوله : ( ادعوا الله وأنتم موقنون
بالإجابة ، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه ) رواه الترمذي
، ولابد أن يكون لهذا الرجاء رصيداً من العمل الصالح ، لا أن يكون مجرد
أمنية وأحلاماً زائفة .
وإضافة إلى ذلك : فإن على المسلم حال
دعائه أن يعزم في المسألة ، ويجزم في الطلب ، فقد روى أبو هريرة رضي الله
عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقولن أحدكم : اللهم اغفر
لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ، ليعزم المسألة ؛ فإنه لا مكره له ) رواه
البخاري .
ثم ينتقل بنا المطاف إلى الحديث عن الاستغفار ، وهو
طلب الستر والتجاوز عن الذنب ، وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على المستغفرين
في كتابه فقال : { والمستغفرين بالأسحار } ( آل عمران : 17 ) ، كما رتّب
حصول المغفرة عليه فقال : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد
الله غفورا رحيما } ( النساء : 110 ) .
وعلاوة على ذلك ، فإن
للاستغفار مزيد فضل على غيره من العبادات ، إذ لا تقتصر بركته على محو
الخطايا وتكفير السيئات ، بل يمتدّ خيره إلى السماء فتنزل أمطارها ، وإلى
الأرض فتنبت زروعها وثمارها ، ويحصل به النماء في الذريّة ، والقوّة في
العُدّة ، ولا أدلّ على ذلك من قوله تعالى : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان
غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات
ويجعل لكم أنهارا } ( نوح : 10 – 12 ) .
فمن هنا : لم يكن غريبا
أن ترى الأمر بالاستغفار في كثير من الآيات الكريمات ، ولم يكن غريبا أن
يتكرر الاستغفار على لسان كثير من الأنبياء والمرسلين ، بل كان نبينا صلى
الله عليه وسلم يُعدّ له في المجلس الواحد مائة استغفار ، كما ورد في سيرته
.
ولا يكون الاستغفار صادقا إلا حين يصدر من قلب مؤمن مستحضر
لجلال الرب وعظمته ، نادم على ما كان منه من تفريط وتقصير ، عازم على
التوبة والإنابة ، وإلا فهي توبة جوفاء ، لا تنفع صاحبها .
ثم
إن أعظم أسباب المغفرة وأجلّها تحقيق جوانب التوحيد ، والإتيان به على أكمل
وجه ، وقد أعلمنا ربنا بذلك في كتابه حينما قال : { الذين آمنوا ولم
يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } ( الأنعام : 82 ) ،
فامتدح من كان إيمانه نقيّا خالصا من عوالق الشرك ، وبشّرهم بالسلامة من
دخول النار ، ولا عجب في ذلك ، فإن الذنوب كلها تتصاغر أمام عظمة التوحيد ،
ومن ثمّ تكفّل الله تعالى لمن لم يشرك به شيئاً أن لا يعذّبه ، كما جاء في
حديث معاذ رضي الله عنه : ( وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يُشرك
به شيئاً ) رواه البخاري .
وبهذا نكون قد انتهينا من تناول
أحاديث الأربعين النووية للإمام النووي رحمه الله ، فالحمد لله على ما منّ
به علينا ، ونسأله سبحانه أن يقيل عثراتنا ويعفو عن زلاتنا ، ويعيننا على
طاعته ، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم .